فصل: باب الْقُرْعَةِ فِى الْمُشْكِلاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ، مَا قَالُوا، فسأل النبى، صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ‏:‏ هَلْ رَأَيْتِ مِنْهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ العَجِينِ، فَتَأْتِى الدَّاجِنُ، فَتَأْكُلُهُ، وذكر الحديث‏.‏‏.‏

إلى قولها‏:‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِى، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِى سَمْعِى وَبَصَرِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلا خَيْرًا، قَالَتْ‏:‏ وَهِىَ الَّتِى كَانَتْ تُسَامِينِى، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تعديل النساء فذكر الطحاوى فى كتاب الخلاف قال‏:‏ تعديل المرأة مقبول عند أبى حنيفة وأبى يوسفَ، وقال محمد‏:‏ لا يقبل فى التعديل إلا رجلان أو رجل وامرأتان‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يجوز تعديل النساء بوجه لا فى مال ولا غيره‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا تعدل النساء ولا يجرحن ولا يشهد على شهادتهن إلا الرجال‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ الدليل على أنه يقبل تعديل النساء أنه يقبل فى التزكية ما لا يقبل فى الشهادة؛ لأنه يقول فى الشهادة‏:‏ أشهد، ولا يحتاج فى التزكية إلى لفظ الشهادة، وفى سؤال النبى صلى الله عليه وسلم بريرة وزينب بنت جحش عن عائشة حجة لأبى حنيفة فى جواز تعديل النساء ألا ترى قول عائشة عن زينب‏:‏ ‏(‏وهى التى كانت تسامينى فعصمها الله بالورع‏)‏‏.‏

وهذا تزكية من عائشة أيضًا لزينب وشهادة لها بالفضل، ومن كانت بهذه الصفة جازت تزكيتها‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومن لم يجز تزكية النساء فإنما ذهب إلى ذلك، والله أعلم، لنقصان النساء عن معرفة وجوه التزكية؛ لأن من شرط مالك والشافعى فى التزكية أن يقول‏:‏ أراه عدلا رضىً أو عدلا علىّ ولى، ولأن هذا لا يعلم إلا بالاختيار لأحوال الرجال وطول المباشرة فى المعاملة وغيرها، والنساء لا يمكنهن تعرف أحوال الرجال من هذه الوجوه، وقد خص الله أزواج نبيه من الفضل ما لا يوجد فى غيرهن ممن يأتى بعدهن من النساء، فاحتيط فى التعديل وأخذ فيه بشهادة الرجال‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان كما ذكرت فجوزّ تعديل النساء على ما ترجم به البخارى لإمكان تعريف النساء أحوال النساء‏.‏

قيل‏:‏ لو قال قائل‏:‏ إنه يجوز أن يزكى بعضهن بعضًا بقول حسن وثناء جميل، ولا يكون تعديلا فى شهادة توجب أخذ مال، وإنما هو إبراء من شر قيل؛ لكان حسنًا، وشهادة النساء إنما أجازها الله تعالى فى الديون والأموال مع الرجال، وأجازها المسلمون فى عيوب النساء وعوراتهن وحيث لا يمكن الرجال مشاهدته، وأما فى غيره فلا يجوز فيه غير الرجال، ألا ترى أنه لا تجوز شهادتهن منفردات على شهادة امرأة، ولا رجل عند جمهور العلماء، ولا تجوز مع الرجال فى ذلك عند الشافعى، وابن الماجشون، وابن وهب، واختاره سحنون، وإنما تجوز مع الرجال عند مالك والكوفيين، فكيف يجوز تعديلهن منفردات عند أبى حنيفة وأبى يوسف، وهما يجيزان شهادتهن على الشهادة منفردات‏؟‏ هذا تناقض‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث الإفك من الفقه سوى ما مر منه فى غير هذا الموضع خروج النساء إلى حاجة الإنسان بغير إذن أزواجهن‏.‏

وفيه‏:‏ خدمة الرجال لما يركبنه النساء من الدواب، واحتمالهن فى الهوادج‏.‏

وفيه‏:‏ ترك مكالمة النساء ومخاطبتهن فى ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ كتم ما يقال فى الإنسان من القبيح عنه، كما كتم قول الناس فى عائشة عنها حتى أعلمتها أم مسطح به‏.‏

وفيه‏:‏ تشكى السلطان والإمام بمن يؤذيه فى أهله، وفى غير ذلك إلى المسلمين والاستعذار منه‏.‏

وفيه‏:‏ مشاورة الرجل بطانته فى فراق أهله لقول قيل‏.‏

وفيه‏:‏ الكشف والبحث عن الأخبار الواردة إن كان له نظائر أم لا، لسؤال النبى صلى الله عليه وسلم بريرة وأسامة وزينب وغيرهم من بطانته عن عائشة، وعن سائر أفعالها وما يغمص عليها، والحكم بما يظهر من الأفعال على ما قيل‏.‏

وفيه‏:‏ أن المرأة لا تخرج إلى دار أبويها إلا بإذن زوجها‏.‏

وفيه‏:‏ فضيلة من شهد بدرًا من المسلمين وأن الدعاء عليهم وجفاء الكلمة منهم مما يجب أن ينكر كما أنكرته عائشة على أم مسطح فى ابنها مع ما للأبوين من المقال مما ليس لغيرهما‏.‏

وفيه‏:‏ توقيف المقول فيه على ما يقال وأمره بالتوبة إن كان أذنب‏.‏

وفيه‏:‏ أن الاعتراف بما فشا من الباطل لا يحل ولا يجمل‏.‏

وفيه‏:‏ أن عاقبة الصبر الجميل فيه الغبطة والعزة فى الدارين‏.‏

وفيه‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم ليس كان يأتيه الوحى متى أراد لبقائه شهرًا لا يوحى إليه‏.‏

وفيه‏:‏ ترك حد من له منعة والتعرض لما يخشى من تفرق الكلمة وظهور الفتنة، كما ترك النبى صلى الله عليه وسلم التعرض لحد عبد الله بن أبى ابن سلول‏.‏

وفيه‏:‏ غضب المسلمين لعرض إمامهم وسلطانهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن المعصية تنقل عن اسم الصلاح كما نقلت سعد بن عبادة من الصلاح عصبيته لعبد الله بن أبى عن حاله؛ لقول عائشة‏:‏ ‏(‏وكان قبل ذلك رجلا صالحًا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أنه قد يسب الرجل أو يرمى بشىء نسب إليه، وإن لم يكن فيه ما نسب؛ لقول أسيد‏:‏ ‏(‏كذبت لعمرو الله؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين‏)‏ ولم يكن سعد منافقًا لكن مجادلته عنه استحل منه أسيد أن يرميه بالنفاق‏.‏

وفيه‏:‏ أن الشبهة تسقط العقوبة كما سقط الحد، وتبيح الفرض وتسقط الحرمة‏.‏

وفيه‏:‏ أن من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أهله أو فى عرضه أنه يقتل؛ لقول أسيد‏:‏ ‏(‏إن كان من الأوس قتلناه‏)‏ ولم يرد عليه النبى صلى الله عليه وسلم شيئًا، فكذلك من سب عائشة بما برأها الله منه، أنه يقتل لتكذيبه القرآن المبرئ لها وتكذيبه الله ورسوله‏.‏

وقال قوم‏:‏ لا يقتل من سبها بغير ما برأها الله منه‏.‏

قال المهلب‏:‏ والنظر عندى يوجب أن يقتل من سب أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بما رميت به عائشة أو بغير ذلك؛ لأن قول أسيد‏:‏ ‏(‏إن كان من الأوس قتلناه‏)‏ إنما قال ذلك قبل نزول القرآن، ولم يرد النبى صلى الله عليه وسلم قوله، ولو كان قوله غير الصواب لما وسع النبى صلى الله عليه وسلم السكوت عنه؛ لأنه مفروض عليه بيان حدود الله، ومن سب أزواجه صلى الله عليه وسلم فقد آذاه ونقصه فهو متهم بسوء العقيدة فى إيمانه بالنبى صلى الله عليه وسلم فهو دليل على إبطانه النفاق‏.‏

وفيه‏:‏ معاقبة المؤذى بقطع المعروف عنه‏.‏

وفيه‏:‏ الأخذ بالعفو والصفح عن المسئ، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب‏.‏

ذكر ألفاظ من الغريب وقعت فى حديث الإفك، وفى المغازى، والتفسير قولها‏:‏ ‏(‏فإذا عقد لى من جزع أظفار‏)‏ هكذا رواه فليح بن سليمان، عن ابن شهاب، وكذلك رواه يونس، عن ابن شهاب فى تفسير القرآن فى سورة النور، وأهل اللغة لا يعرفون هذا ويقولون‏:‏ من جزع ظفار وهو مبنى على الكسر كما تقول‏:‏ حزام ورقاس، وقد رواه البخارى ‏(‏ظفار‏)‏ كما قال أهل اللغة فى كتاب المغازى من رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ ظفار مدينة باليمن وهو جزع ظفارى‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الجزع ضرب من الجزر، والجزع بكسر الجيم، جانب الوادى ومنعطفه‏.‏

والعلقة ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداة، والعلاق مثله‏.‏

عن صاحب العين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏معرسين فى نحر الظهيرة‏)‏ التعريس‏:‏ النزول‏.‏

قال الخطابى‏:‏ ونحر الظهيرة أول القائلة‏.‏

وقد روى‏:‏ ‏(‏موغرين فى نحر الظهيرة‏)‏ فمعنى موغرين أى‏:‏ مهجرين، يقال‏:‏ رأيت فلانًا فى وغر الهاجرة‏.‏

وهو شدة الحر حين تكون الشمس فى كبد السماء، ومنه وغر الصدر‏:‏ وهو التهاب الحقد وتوقده فى القلب ومن هذا إيغار الماء‏.‏

قال ابن السكيت‏:‏ وهو أن تسخن الحجارة، ثم تلقى فى الماء لتسخنه‏.‏

والمتبرز‏:‏ المكان الذى تقضى فيه حاجة الإنسان، والبراز أيضًا اسم ذلك المكان، وبها سمى الحدث برازًا، كما يسمى الحدث بالغائط وهو المطمئن من الأرض‏.‏

والتنزه‏:‏ البعد عن البيوت، وكانوا يبعدون عنها عند حاجة الإنسان‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏تعس مسطح‏)‏ التعس‏:‏ ألا ينتعش من عثرته‏.‏

وقد تعس تعسًا وأتعسه الله‏.‏

وقد تقدم فى باب الحراسة فى الغزو‏.‏

وقول بريرة‏:‏ ‏(‏ما رأيت أمرًا أغمصه عليها‏)‏ يقال‏:‏ رجل مغموص عليه فى دينه‏:‏ إذا طعن عليه فيه‏.‏

وفى كتاب الأفعال‏:‏ غمص الناس غمصًا‏:‏ احتقرهم وطعن عليهم، والغمص فى العين كالرمص‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ ‏(‏الداجن‏)‏ الشاة المعتادة للقيام فى المنزل إذا سمنت للذبح واللبن، ولم تسرح فى المسرح، وكل معتاد موضعًا هو به مقيم فهو كذلك داجن‏.‏

يقال‏:‏ دجن فلان بمكان كذا ودجن به إذا أقام به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما دام مجلسه‏)‏ أى‏:‏ ما برح منه‏.‏

عن صاحب العين‏.‏

‏(‏والبرحاء‏)‏‏:‏ شدة الحر‏.‏

من كتاب العين‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ البرحاء‏:‏ شدة الكرب، مأخوذ من قولك‏:‏ برحت بالرجل إذا بلغت به غاية الأذى والمشقة‏.‏

ويقال‏:‏ لقيت منه البرح‏.‏

‏(‏تسامينى‏)‏‏:‏ المسامة مفاعلة من سما يسمو إذا ارتفع وتطاول‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ سما الفحل سماوة‏:‏ تطاول على سواه‏.‏

ومما وقع فى حديث الإفك من الغريب فى كتاب المغازى والتفسير قولها‏:‏ ‏(‏وكان النساء خفافًا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ المهل‏:‏ الكثير اللحم‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ يقال منه‏:‏ أصبح فلان مهبلا إذا كان مورم الوجه متهيجًا وأنشد أبياتًا‏:‏

ريان لا غاش ولا مهبل ***

الغش‏:‏ الرقيق عظام اليدين والرجلين‏.‏

وقول عروة فى عبد الله بن أبىّ أنه كان يشاع ويتحدث عنده فيقره ويسمعه ويستوشيه‏.‏

قال ثابت‏:‏ يستوشيه أى‏:‏ يأتلف عليه ويستدعيه ويستخرجه كما يستخرج الفارس جرى الفرس بعقبه وبالسوط‏.‏

وقال يعقوب‏:‏ يقال‏:‏ مرّ فلان يركض فرسه ويربه ويستزده ويستوشيه، كل ذلك طالب ما عنده ليزيده‏.‏

وقيل‏:‏ هو من قولك‏:‏ وشى الكذب وشاية‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ وشى النمام يشى وشاية، ووشى الحائك الثوب يشى وشيًا‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏قلص دمعى نابت‏)‏، يقال‏:‏ قلص الدمع‏:‏ ارتفع‏.‏

وقلص الظل‏:‏ تقلص‏.‏

ابن السكيت‏:‏ قلص الماء فى البئر إذا ارتفع، وهو ماء قليص‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏ما كشف كنف أنثى‏)‏ قال ثابت‏:‏ الكنف هاهنا الثوب الذى يكنفها أى‏:‏ يسترها، ومنه قولهم‏:‏ هو فى حفظ الله وكنفه‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ وبعض العرب يقول‏:‏ أنت فى كنفى‏.‏

وكنفا الطائر‏:‏ جناحاه‏.‏

والكنف أيضًا‏:‏ الجانب‏.‏

وناحيتا كل شىء‏:‏ كنفاه‏.‏

وأكناف الجبل والوادى‏:‏ نواحيه‏.‏

ومما وقع فى تفسير القرآن فى سورة النور قول أم مسطح لعائشة‏:‏ ‏(‏أى هنتاه‏)‏ معناه‏:‏ يا امرأة‏.‏

وقد تقدم تفسير هذه اللفظة فى كتاب الحج فيمن قدم ضعفة أهله بالليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون فى حديث أسماء وفيه‏:‏ أشيروا على فى أناس أبنوا أهلى التائبين‏.‏

ذكر الشىء وتتبعه‏.‏

وقال الراعى‏:‏ فرفع أصحابى المطى وأبنوا هنيدة فاشتاق العيون اللوامح قال ابن السكيت‏:‏ أبنوا هنيدة كأنهم جروا بها وذكروها‏.‏

ومن روى‏:‏ أبنوا علىّ أهلى بالتخفيف معناه‏:‏ فرقوها‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ أمر الرجل الخيل وأبن به، فهو مأمور ومأبون وهما سواء‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏فنفرت لى الحديث‏)‏ أى‏:‏ شرحته وبينته‏.‏

عن ثابت‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ نفر عن الأمر أى‏:‏ بحث عنه‏.‏

وفيه بريرة‏:‏ ‏(‏أنهرها بعض أصحابه فقال لها‏:‏ اصدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به‏.‏

فقالت‏:‏ سبحان الله، والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر‏)‏ يحتمل أن يكون معنى قولها ‏(‏حتى أسقطوا لها به‏)‏ مأخوذ من قولهم سقط إلى الخبر‏:‏ إذا علمته، ومن قولهم‏:‏ فلان يساقط الحديث، معناه‏:‏ يرويه، ومنه قول بشير بن سعد‏:‏ كنا نجالس سعدًا فكان يتحدث حديث الناس والأخلاق، وكان يساقط فى ذلك الحديث عن رسول الله، وقوله‏:‏ ‏(‏يساقط‏)‏ معناه يروى الحديث فى خلال كلامه‏.‏

قال أبو حميد النمرى‏:‏ إذا هن ساقطن الحديث وقلن لى أخفت علينا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وتخدعا فمعنى قولها‏:‏ ‏(‏حتى أسقطوا لها به‏)‏ أى‏:‏ ذكروا لها الحديث وبينوه فعند ذلك قالت‏:‏ ‏(‏سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر‏)‏ إنكارًا أو إعظامًا أن تنطق بمثل هذا القول عمن اختارها الله زوجًا لأطيب خلقه وأفضلهم وجعلها أحب إليه من جميع نساء العالمين، ولا تجوز أن تكون إلا طيبة مثله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏، فلذلك برأها الله فى القرآن المكرم بما تكرر تلاوته إلى يوم القيامة‏.‏

باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلا كَفَاهُ

وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ‏:‏ وَجَدْتُ مَنْبُوذًا، فَلَمَّا رَآنِى عُمَرُ، قَالَ‏:‏ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِى، قَالَ عَرِيفِى‏:‏ إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ‏:‏ كَذَاكَ اذْهَبْ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبو بَكْرَةَ‏:‏ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ‏:‏ أَحْسِبُ فُلانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلا أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ‏)‏‏.‏

هذا الباب موافق لمذهب أبى حنيفة أنه يجوز تعديل رجل واحد، واحتج أصحابه بحديث أبى جميلة فى ذلك‏.‏

وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تعديل كم يجوز‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما الذين لم يجيزوا تزكية رجل واحد فقالوا‏:‏ إن هذا السؤال من عمر إنما كان على طريق الخبر لا على طريق الشهادة، وهذا أصل فى أن القاضى إذا سأل عن أحد فى مجلس نظره، فإنه يجتزئ بخبر الواحد وتعديله إذا كان القاضى هو الكاشف لأمره؛ لأن ذلك بمنزلة علم القاضى إذا علم عدالة الشاهد، ألا ترى أن عمر قنع بقول العريف إذ كان خبرًا‏.‏

وأما إذا كلف المشهود له أن يعدل شهوده فلا يقبل أقل من رجلين كما ذكر الله فى كتابه‏.‏

هذا قول أصبغ بن الفرج‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أنكر صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى بكرة قطعه بالصلاح والخير له، ولم يرد العلم إلى الله فى ذلك، ألا ترى أنه أمره إذا أثنى أحد على أحد أن يقول‏:‏ أحسب‏.‏

ولا يقطع؛ لأنه لا يعلم السرائر إلا الله، وهو فى معنى الخبر لا فى معنى الشهادة‏.‏

وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن قول عمر بن الخطاب‏:‏ ‏(‏ما حملك على أخذ هذه النسمة‏؟‏‏)‏ فقال مالك‏:‏ اتهمه عمر أن يكون ولده أتاه به ليفرض له فى بيت المال، ويحتمل أنه ظن به أنه يريد أن يفرض له ويلى أمره ويأخذ ما يفرض له ويصنع به ما شاء، فلما قال له عريفه‏:‏ إنه رجل صالح، صدقه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏وعلينا نفقته‏)‏ يعنى‏:‏ رضاعه ومئونته من بيت المال‏.‏

وقال عيسى بن دينار‏:‏ وكان عمر دوّن الدواوين، وقسم الناس أقسامًا، وجعل على كل ديوان عريفًا ينظر عليهم، فكان الرجل الذى وجد المنبوذ من ديوان الرجل الذى زكاه عند عمر‏.‏

وفى قول العريف لعمر‏:‏ ‏(‏إنه رجل صالح‏)‏ وتقرير عمر للرجل على ذلك فقال‏:‏ نعم‏.‏

فيه‏:‏ أن مباحًا للإنسان أن يزكى نفسه ويخبر بالصلاح عنها إذا احتيج إلى ذلك وسئل عنه، وهكذا رواه مالك فى الموطأ فقال عمر‏:‏ ‏(‏أكذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الإطْنَابِ فِى الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمَهُ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى‏:‏ ‏(‏سَمِعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِى مَدْحِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قال هذا، والله أعلم، لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة، فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلا، ويوهمه فى نفسه حتى يضع التواضع لله، وكان السلف يقولون‏:‏ إذا أثنى على أحدهم‏:‏ اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيرًا مما يظنون‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ العاقل لا يدعه ما ستر الله عليه من عيوبه بأن يفرح بما أظهره من محاسنه‏.‏

باب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقال مُغِيرَةُ‏:‏ احْتَلَمْتُ، وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاللائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏‏.‏

وقال الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ‏:‏ أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً‏.‏

وذكر الشافعى أنه رأى باليمن جدة بنت إحدى وعشرين سنة حاضت لتسع وولدت لعشر وعرض مثل ذلك لابنتها، ويذكر أن عمرو بن العاص بينه وبين ابنه اثنتا عشرة سنة‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ‏:‏ فَلَمْ يُجِزْنِى، ثُمَّ عَرَضَنِى يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِى، قَالَ نَافِعٌ، فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على أن الاحتلام فى الرجال والحيض فى النساء هو البلوغ الذى تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره، وأن من بلغ الحلم فأونس منه الرشد جازت شهادته ولزمته الفرائض وأحكام الشريعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏غسل الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏ فعلق الغسل بالاحتلام‏.‏

وببلوغ الحلم وإيناس الرشد يجوز دفع ماله إليه؛ لقوله‏:‏ ‏(‏وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، وبلوع النكاح هو الاحتلام، واختلفوا فيمن تأخر احتلامه من الرجال أو حيضته من النساء، فروى عن القاسم وسالم أن الإنبات حد البلوغ‏.‏

وهو قول الليث، وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏

وقال مالك بالإنبات أو أن يبلغ من السن ما يعلم أن مثله قد بلغ‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ وذلك سبع عشرة أو ثمان عشرة سنة، وفى النساء هذه الأوصاف أو الحبل‏.‏

إلا أن مالكًا لا يقيم الحد بالإنبات إذا زنى أو سرق ما لم يحتلم، أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم فيكون عليه الحد‏.‏

ولم يعتبر أبو حنيفة الإنبات، وقال‏:‏ حد البلوغ فى الجارية سبع عشرة سنة، وفى الغلام تسع عشرة‏.‏

وروى عنه فى الغلام ثمان عشرة مثل قول ابن القاسم، وهو قول الثورى، واختلف قول الشافعى فى الإنبات فقال‏:‏ يكون بالغًا فى المسلمين‏.‏

وقال‏:‏ لا يكون بلوغًا‏.‏

ولم يختلف قوله أنه محكوم به فى المشركين إذا عدم الاحتلام‏.‏

اعتبر الشافعى خمس عشرة سنة فى الذكور والإناث، وأخذ بحديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم أجازه يوم الخندق‏.‏

وهو مذهب الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد، وبه قال ابن الماجشون وابن وهب‏.‏

واحتج من اعتبر الإنبات بما رواه سعيد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه أن سعد بن معاذ حكم على بنى قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه المواسى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حكمت فيهم بحكم الله‏)‏‏.‏

وبما روى نافع، عن أسلم، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الأجناد ألا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسى‏.‏

وقال عثمان بن عفان فى غلام سرق‏:‏ إن اخضر مئزره فاقطعوه، وإن لم يخضر فلا تقطعوه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ووجه قول من جعل الثمان عشرة وشبهها حدا للبلوغ، وإن لم يكن إنبات ولا احتلام قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏، فقال ابن عباس فى تفسير ذلك‏:‏ ثمان عشرة سنة‏.‏

ومثل هذا لا يعلم إلا من جهة التوقيف، وقد أجمعوا على اعتبار البلوغ فى دفع المال إليه، فدل أن البلوغ يتعلق بهذا القدر من السن دون غيره إلا أن يقوم دليل‏.‏

وأما تفرقة الشافعى بين المسلمين والمشركين فى الإنبات على أحد قوليه فلا معنى له؛ لأن كل ما جاز أن يكون علامة فى البلوغ للكافر جاز أن يكون فى المسلم، أصله الحيض فى النساء‏.‏

وأما اعتبار خمس عشرة سنة فى حد البلوغ إذا لم يحصل فيها احتلام ولا إنبات، فليس فى خبر ابن عمر ذكر البلوغ الذى به تعلق أحكام الشريعة، وإنما فيه ذكر الإجازة فى القتال، وهذا المعنى يتعلق بالقوة والجلد، ومن أصل الجميع أن الحكم متى نقل سببه تعلق به، فإنما أجازه للقتال خاصة بها السن ومن أجلها عرض، ونحن نجيز قتال الصبى إذا لم يبلغ هذا السن ويسهم له إذا قاتل‏.‏

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيز المراهقين إذا بلغوا حد من يقاتل، وقال سمرة بن جندب‏:‏ عرضت على النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض غزواته فلم يجزنى، وعرض عليه غلام غيرى فأجازه، فقلت‏:‏ يا رسول الله، قبلته ورددتنى، فلو صارعنى لصرعته، فقال‏:‏ ‏(‏صارعه‏)‏، فصرعته، ففرض له النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

و على ما تأول ابن القصار حديث ابن عمر تأوله أبو حنيفة وقال‏:‏ إنما أجاز النبى صلى الله عليه وسلم ابن عمر لقوته لا لبلوغه، ورده لضعفه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولا ينكر أبو حنيفة أن يفرض للصبيان إذا كانوا يحتملون القتال ويحضرون الحرب، وإن كانوا غير بالغين‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى شهادة الصبى غير البالغ، فقالت طائفة‏:‏ لا تجوز شهادته؛ لأنه ليس ممن يرضى، وإنما قال الله‏:‏ ‏(‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، روى هذا عن ابن عباس وعن القاسم، وسالم وعطاء، والشعبى والحسن وابن أبى ليلى، وهو قول الثورى والكوفيين، والشافعى وأحمد، وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تجوز شهادتهم بعضهم على بعض فى الجراح والدم‏.‏

روى عن على بن أبى طالب وابن الزبير، وشريح وعروة، والنخعى وربيعة، والزهرى ومالك‏.‏

ويؤخذ بأول قولهم ما لم ينخسوا أو يتفرقوا‏.‏

قال مالك‏:‏ فإذا تفرقوا فلا شهادة لهم، إلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول قبل أن يتفرقوا‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ وهى السنة أن تؤخذ شهادة الصبيان أول ما يسألون عنه ويكون مع الولى كذلك وإن هم أحدثوا ما يخالف شهادتهم الأولى لم يلتفت إليه، ويؤخذ بالأول من شهادتهم، وبذلك كان يقضى عمر بن عبد العزيز‏.‏

باب سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِىَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ‏:‏ فَقَالَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ‏:‏ فِىَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِى، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَقَالَ لِلْيَهُودِىِّ‏:‏ احْلِفْ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِى، قَالَ‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما يلزم الحاكم أن يسأل المدعى‏:‏ هل لك بينة‏؟‏ لأن النبى صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعى، وأجمعت الأمة على القول بذلك، وأنه لا تقبل دعوى أحد على أحد دون بينة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ معنى سؤال الحاكم المدعى البينة قبل اليمين، خوفًا أن يحلف له المطلوب، ثم يأتى بعد ذلك المدعى ببينة فيأخذ منه حقه؛ فيحصل المطلوب تحت يمين كاذبة غموس يستحق بها عقاب الله، إن شاء أن ينفذ عليه الوعيد، ثم يؤخذ المال منه له كالظلم، فإذا سأله‏:‏ هل لك بينة‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏

لم يكن له الرجوع عليه ببينة إلا أن يحلف أنه ما علم بها يوم قال‏:‏ لا، وسيأتى بعد‏.‏

واختلف العلماء فى المدعى يثبت البينة على ما يدعيه هل للحاكم أن يستحلفه مع بينته أم لا‏؟‏ فكان شريح وإبراهيم النخعى يريان أن يستحلف مع بينته أنها شهدت بحق، وقد روى ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن حنش أن عليا استحلف عبيد الله بن الحر مع بينته، وهو قول الأوزاعى والحسن بن حى، وقال إسحاق‏:‏ إذا استراب الحاكم أوجب ذلك، وذهب مالك والكوفيون، والشافعى وأحمد إلى أنه لا يمين عليه، والحجة لهم قوله، عليه السلام، للأشعث‏:‏ ‏(‏ألك بينة‏؟‏‏)‏، ولم يقل له‏:‏ وتحلف معه، فلم يوجب على المدعى غير البينة، وأيضًا قوله‏:‏ ‏(‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ الآية، فأبرأه الله من الجلد بإقامة أربعة شهداء من غير يمين‏.‏

باب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِى الأمْوَالِ وَالْحُدُودِ

وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ‏)‏‏.‏

وقال ابْنِ شُبْرُمَةَ، كَلَّمَنِى أَبُو الزِّنَادِ فِى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، فَقُلْتُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ الآية‏.‏

قُلْتُ‏:‏ إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأخْرَى‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ‏.‏

أجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه فى الأموال، واختلفوا فى الحدود والطلاق والنكاح والعتاق، فذهب الشافعى أن اليمين واجب على كل مدعى عليه إذا لم يكن للمدعى بينة، وسواء كانت الدعوى فى دم أو جراح أو طلاق أو نكاح أو عتق أو غير ذلك، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه‏)‏ قال‏:‏ ولم يخص النبى صلى الله عليه وسلم مدعى مال دون مدعى دم أو غيره، بل الواجب أن يحمل قوله على العموم، ألا ترى أنه جعل القسامة فى دعوى الدم، وقال للأنصار‏:‏ ‏(‏تبرئكم يهود بخمسين يمينًا‏)‏ والدم أعظم حرمة من المال‏.‏

وقال الشافعى وأبو ثور‏:‏ إذا ادعت المرأة على زوجها خلعًا أو طلاقًا، وجحد الزوج الطلاق، فالمرأة المدعية عليها البينة، فإن لم يكن لها بينة استحلف الزوج، وإن ادعى الزوج أنه خالعها على مال وهى ناشز فأنكرت المرأة، فإن أقام البينة لزمها المال، وإن لم يقم بينة حلفت ولزم الزوج الفراق؛ لأنه أقرَّ بذلك، وإن ادعى العبد العتق ولم تكن له بينة استحلف السيد فإن حلف برئ، وإن ادعى السيد أنه أعتق عبده على مال، والعبد منكر لذلك حلف ولزم السيد العتق‏.‏

وكان سوار يحلف فى الطلاق، وكان أبو يوسف ومحمد يريان أن يستحلف على النكاح، فإن أبى أن يحلف ألزم النكاح‏.‏

وذكر ابن المنذر، عن الشعبى، والثورى، وأصحاب الرأى، أنه لا يستحلف على شىء من الحدود ولا على القذف، وقالوا‏:‏ يستحلفه على السرقة فإن نكل عن اليمين لزمه النكال، وفيه قول آخر‏:‏ لا يمين فى الطلاق والنكاح والعتق والفرية إلا أن يقيم المدعى شاهدًا واحدًا، فإذا أقامه استحلف المدعى عليه‏.‏

هذا قول مالك بن أنس‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ إذا أقامت المرأة أو العبد شاهدًا واحدًا على أن الزوج طلقها أو أن السيد أعتقه؛ فإن اليمين تكون على السيد والزوج، فإن حلفا سقط عنهما الطلاق والعتق، هذا قول مالك وابن الماجشون وابن كنانة قال مالك فى المدونة‏:‏ فإن نكل قضى بالطلاق والعتق‏.‏

ثم رجع مالك فقال‏:‏ لا يقضى بالطلاق والعتق‏.‏

ثم رجع مالك فقال‏:‏ لا يقضى بالطلاق وليسجن، فإن طال سجنه دين وترك‏.‏

وبهذا أخذ ابن القاسم، وطول السجن عنده سنة، وروى أشهب عن مالك فى العتبية فى الرجل يأتى بشاهد واحد على رجل شتمه‏:‏ أيحلف مع شاهده ويستحق ذلك، أو يستحلف المدعى عليه ويبرأ‏؟‏ قال‏:‏ لا يحلف فى مثل هذا مع الشاهد، وأرى إن كان الشاتم معروفًا بالسفه أن يعزر ويؤدب‏.‏

قلت له‏:‏ أفترى على المدعى عليه يمينًا‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وليس كل ما رأى المرء يحب أن يجعله سنة فيذهب به إلى الأمصار، فتضعف يمين المدعى عليه فى هذه المسألة حين رأى ألا يجعل قوله سنة‏.‏

وذهب أهل المقالة الأولى إلى وجوب اليمين على المدعى عليه بمجرد الدعوى فى كل دعوى، ولم ير مالك على المدعى عليه يمينًا، حتى يقيم المدعى شاهدًا واحدًا فى دعوى النكاح والطلاق، والعتق والفرية‏.‏

والعتاقة عند مالك حد من الحدود؛ لأنه إذا أعتق العبد ثبتت حرمته وجازت شهادته ووقعت الحدود له وعليه بخلاف ما كانت قبل ذلك ورأى فى الأموال خاصة اليمين على المدعى عليه دون شاهد يقيمه المدعى؛ لأن إيجاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر إنما ورد فى خصام فى أرض بين الأشعث وبين رجل آخر، ففيه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه‏)‏‏.‏

فرأى مالك حمل الحديث على ما ورد عليه فى الأموال خاصة، ورأى فى دعوى النكاح والطلاق والعتق والفرية إذا أقام المدعى شاهدًا واحدًا أن يحلف المدعى عليه فيتبرأ بذلك من الدعوى التى قويت شبهتها بالشاهد، ولو جاز فيها دخول الأيمان دون شاهد يقيمه المدعى لأدى ذلك إلى إضاعة الحدود واستباحة الفروج ورفع الملك‏.‏

ولا يشاء أحد أن يدعى نكاح امرأة فتنكر فيحلفها أو يبتذلها بذلك، فإن لم تحلف أخذها زوجها واستباح فرجها الذى هو أعلى رتبة من المال؛ لأن المال يقبل فيه شاهد وامرأتان ولا يقبل ذلك فى النكاح، ولو أدعى أنها زوجته وصدقته المرأة لم يحكم بينهما بثبوت الزوجية بتقاررهما دون بينة تشهد على ذلك، فكذلك لا تقبل دعوى المرأة على زوجها أنه طلقها إلا بالبينة ولا تحلفه بدعواها؛ لأن هذا يؤدى إلى أن يستبيح الأجنبى فرجها مع كونها زوجة الأول؛ لأنه لا تشاء امرأة تكره زوجها إلا ادعت عليه كل يوم طلاقها، ولا يشاء عبد العتق إلا ادعى على مولاه أنه أعتقه، ولا سيما إذا علم أن الزوج أو السيد ممن لا يحلف فى مقطع الحقوق فكثير من الناس يتجنب ذلك، وإن لم يحلف الزوج ولا السيد طلقت المرأة وعتق العبد، هذا على قول مالك الأول الذى أوجب العتق والطلاق بالنكول، والقول الآخر الذى رجع إليه أشد احتياطًا فى تحصين الفروج والحدود‏.‏

وأما قياس الشافعى كل دعوى على القسامة، فالقسامة باب مخصوص ولا يجوز أن يقاس على المخصوص، ولا يجوز أن يؤخذ ما أصله موجود فى سنة النبى صلى الله عليه وسلم فيجعل فرعًا يقاس على أصل لا يشبهه؛ لأن قياس الأصول بعضها على بعض لا يجوز، ولو كان فرعًا ما جاز قياسه على أصل لا يشبهه وأحق الناس بأن يمنع أن يجعل فى باب الدعوى بالدم قياسًا على القسامة من لا يرى القود بالقسامة وهو الشافعى، والقسامة يبدأ فيها المدعى باليمين عند مالك والشافعى، والمدعى عليه فى غير هذا يبدأ باليمين وأيضًا فإن القسامة لم يحكم فيها بالأيمان إلا بعد اللوث، وأقيمت الأيمان مقام الشهادة وغلظت حتى جعلت خمسين يمينًا، وليس هذا فى شىء من الأحكام‏.‏

وقال محمد بن عمر بن لبابة‏:‏ مذهب مالك على ما روى عن عمر بن عبد العزيز أنه لا يجب يمين إلا بخلطة، وبذلك حكم القضاة عندنا، والذى أذهب إليه فى خاصة نفسى وأفتى به من قلدنى فاليمين بالدعوى؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليمين على المدعى عليه‏)‏‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لما جعل النبى صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعى عليه دخل فى ذلك الخيار والشرار، والمسلمون والكفار، والرجال والنساء علم بين المدعى والمدعى عليه معاملة أم لا‏.‏

هذا قول الكوفيين والشافعى، وأصحاب الحديث وأحمد بن حنبل‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولما قال من خالفنا أن البينة تقبل بغير سبب تقدم من معاملة بين المدعى وبين صاحبه، وجب كذلك أن يستحلف المدعى عليه وإن لم تعلم معاملة تقدمت بينهما؛ لأن مخرج الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، وما أحد فى أول ما يعامل صاحبه إلا ولا معاملة كانت بينهما قبلها‏.‏

واحتج الكوفيون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه‏)‏ فى أن اليمين لا يجب ردها على المدعى إذا نكل المدعى عليه‏.‏

قالوا‏:‏ ويحكم بنكول المدعى عليه، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه‏)‏ ولم يقل‏:‏ أو يمينك، ولو كان الحكم يتعلق بيمين المدعى لذكره كما ذكر بينة المدعى ويمين المدعى عليه، وستأتى مذاهب العلماء فى رد اليمين فى باب القسامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه‏)‏‏.‏

قال سيبويه‏:‏ المعنى‏:‏ ما يثبت لك شاهداك، وتأويله ما يثبت لك بشهادة شاهديك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه‏.‏

وأما احتجاج ابن شبرمة على أبى الزناد فى إبطال الحكم باليمين مع الشاهد، فإن العلماء اختلفوا فيه، فممن وافق ابن شبرمة فى ذلك‏:‏ ابن أبى ليلى، وعطاء، والنخعى، والشعبى، والكوفيون، والأوزاعى قالوا‏:‏ لا يجوز القضاء باليمين مع الشاهد‏.‏

قال محمد ابن الحسن‏:‏ وإن حكم قاض بذلك نقض حكمه، وهو بدعة‏.‏

قالوا‏:‏ وقال ابن شهاب‏:‏ إنه بدعة، أول ما حكم به معاوية، وهو قول الزهرى، والليث‏.‏

وروى عن أبى بكر الصديق وعمر وعلى وأبى بن كعب أنه يحكم باليمين مع الشاهد، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين وربيعة وأبى الزناد، وقال به من أهل العراق‏:‏ الحسن البصرى وعبد الله بن عتبة وإياس بن معاوية‏.‏

قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور والحكم به فى الأموال عندهم خاصة، وأجمعوا أنه لا يجب حد بيمين وشاهد‏.‏

واحتج الكوفيون فقالوا‏:‏ الحكم باليمين مع الشاهد خلاف القرآن والسنة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏شاهداكم أو يمينه‏)‏ فيقال لهم‏:‏ ليس بخلاف للقرآن والسنة كما توهمتموه، وإنما هو زيادة كنكاح المرأة على عمتها وخالتها مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، ومثل المسح على الخفين مع ما نزل به القرآن من غسل الرجلين ومسحهما، فكذلك ما قضى به النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله مع اليمين مع الشاهد مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏

ويقال لهم‏:‏ إن مالكًا أوجب القصاص فى الجراح باليمين مع الشاهد، فقال فى المدونة‏:‏ وكل جرح فيه قصاص فإنه يقتص فيه بيمين وشاهد، وقاله عمر بن عبد العزيز، ووقع له فى كتاب الأقضية ما يوهم خلاف هذا الأصل فقال‏:‏ ومن ادعى على رجل قصاصًا وأنه ضربه بالسوط لم يجب عليه يمين إلا أن يأتى بشاهد فيستحلف له، وقد كان يجب على أصله المتقدم أن يحلف المضروب مع شاهده ويقتص، ولم يجب ذلك له مالك فى هذه المسألة، ووجه المسألتين أن القصاص المذكور فى هذه المسألة الأخيرة ليس بجرح يجب فيه قصاص ولا دية معلومة، وإنما هو فى الركضة واللطمة، ألا ترى أنه جعل القصاص المذكور مع الضربة بالسوط؛ وليس فى شىء من ذلك قصاص عنده مثله، وإنما فيه أدب الإمام، والأدب لا يجب بشاهد ويمين، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، ولو وجب ذلك بشاهد ويمين لكن مقدرًا، ولم يكن فيه لاجتهاد السلطان مدخل، والمسألة الأولى القصاص فيها إلى المجروح وهو من حقوقه فهو كسائر الحقوق التى يستحقها بشاهد ويمين، ولابد مع القصاص من أدب السلطان بجرأته على جرحه، والمسألة الأخرى إنما فيها أدب التعدى فقط فلذلك يحلف فيها المدعى، واحتج الكوفيون أيضًا فقالوا‏:‏ الزيادة عندنا على النص نسخ له‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فالجواب أن ذلك بيان وليس بنسخ؛ لأن النسخ إنما هو لو ورد مقترنًا به لم يمكن الجمع بينهما، وفى هذا الموضع لو ورد مقترنًا لجاز أن يجمع بينهما وهو أن يقول تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم أو شاهدًا وامرأتين أو شاهدًا ويمين‏)‏ فإن ذلك لا يتنافى، وإثبات شاهد ويمين هو إثبات حكم كما يأمرنا بالصلاة ثم يوجب الصوم‏.‏

وقد تناقض الكوفيون فى هذا الأصل، فنقضوا الطهارة بالقهقهة وزادوها على الأحداث الثمانية، وجوزوا الوضوء بالنبيذ، وزادوه على الوضوء بالماء المنصوص عليه فى الكتاب والسنة، ولم يجعلوا ذلك نسخًا لما تقدم فتركوا أصلهم‏.‏

وقد احتج مالك لهذه المسألة فى الموطأ فقال‏:‏ من الحجة فيها أن يقال‏:‏ أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا، أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه‏؟‏ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق أن حقه لَحَق، وثبت حقه على صاحبه، فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس، فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد‏.‏

يريد مالك أنه إذا حلف صاحب الحق فإنه يقضى له بحقه ولا شاهد معه، فكيف بمن معه شاهد‏؟‏ فهو أولى أن يحلف مع شاهده‏.‏

قال المهلب‏:‏ والشاهد واليمين إنما جعله الله رخصة عند عدم الشاهد الآخر بموت أو سفر أو غير ذلك من العوائق كما جعل تعالى رجلا وامرأتين رخصة عند عدم شاهدين؛ لأنه معلوم أنه لا يحضر المتبايعين شاهدان عدلان أو أكثر فيقتصرا على شاهد وامرأتين أو على شاهد واحد، هذا غير موجود فى العادات، بل من شأن الناس الاستكثار من الشهود، فنقل الله العباد فى صفة الشهود من حال إلى حال أسهل منها رفقًا من الله بخلقه، وحفظًا لأموالهم فلا تناقض فى شىء من ذلك، والحديث فى ذلك رواه مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد‏)‏‏.‏

باب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلا، يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ‏)‏‏.‏

هذا الحديث إنما هو فى رمى أحد الزوجين صاحبه، فهو الذى يقال له‏:‏ انطلق فائت بالبينة؛ لأن الزوجين ليس بينهما جلد، وإنما سقط الجلد بينهما بالتلاعن، والأجنبيون بخلاف حكم الزوجين فى ذلك؛ فإذا قذف أجنبى أجنبيا لم يترك لطلب البينة ولا يضمنه أحد، بل يحبسه الإمام خشية أن يفوت أو يهرب، أو يرتاد من يطلب بينته، وإنما لم يضمنه أحد، لأن الحدود لا كفالة فيها ولا ضمان؛ لأنه لا يحد أحد عن أحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏البينة وإلا حد فى ظهرك‏)‏ كان قبل نزول حكم اللعان على ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏‏.‏

الآية‏.‏

فدخل فى حكم الآية الزوجان وغيرهما، فلما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 5‏]‏، وحكم الله باللعان بين الزوجين بخلاف حكم الأجنبيين، وخص الزوجين بألا يحد المتلاعن إلا أن يأبى من اللعان، وكذلك المرأة إذا أبت من اللعان بعد لعان الزوج حدت، بخلاف أحكام الأجنبيين أنه من لم يقم البينة على قذفه وجب عليه الحد؛ لقوله‏:‏ ‏(‏وإلا حد فى ظهرك‏)‏‏.‏

باب يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ

قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ‏:‏ أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِى، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ مَسْعُود، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالا، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب فقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبى صلى الله عليه وسلم ولا بين الركن والمقام فى قليل الأشياء ولا كثيرها ولا فى الدماء، وإنما يحلفون الحكام من وجبت عليه اليمين فى مجالسهم‏.‏

وإلى هذا القول ذهب البخارى، وقال مالك‏:‏ لا يحلف أحد عند منبر إلا منبر النبى صلى الله عليه وسلم ومن أبى أن يحلف عند منبر النبى صلى الله عليه وسلم فهو كالناكل عن اليمين، ويجلب فى أيمان القسامة إلى مكة من كان من عملها فيحلف بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من عملها فيحلف عند المنبر‏.‏

وهو قول الشافعى‏.‏

ولا يكون اليمين عند مالك فى مقطع الحق فى أقل من ثلاثة دراهم قياسًا على القطع، وعند الشافعى فى عشرين دينارًا قياسًا على الزكاة، كذلك عند منبر كل مسجد، وروى ابن جريج، عن عكرمة قال‏:‏ أبصر عبد الرحمن بن عوف قومًا يحلفون بين المقام والبيت فقال‏:‏ أعلى دم‏؟‏ فقيل‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفعلى عظيم من المال‏؟‏ قيل‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام‏.‏

قال‏:‏ ومنبر النبى صلى الله عليه وسلم فى التعظيم مثل ذلك؛ لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة‏.‏

واحتج أبو حنيفة بأنا روينا عن زيد بن ثابت أنه لم يحلف على المنبر وخالفتموه إلى قول مروان بغير حجة‏.‏

قال‏:‏ وليس قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على منبرى هذا‏.‏‏.‏‏)‏ يوجب أن الاستحلاف لم يجب‏.‏

واحتج عليه الشافعى فقال‏:‏ لو لم يعلم زيد أن اليمين عند المنبر سنة لأنكر ذلك على مروان، وقال له‏:‏ لا والله ما أحلف إلا فى مجلسك‏.‏

وما كان يمنع أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا لجلالة قدره عنده، وقد أنكر عليه أمر الصكوك وقال له‏:‏ أتحل الربا يا مروان‏؟‏ فقال مروان‏:‏ أعوذ بالله من هذا‏.‏

فقال‏:‏ الناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها‏.‏

فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدى الناس‏.‏

فكذلك كان ينكر عليه اليمين عند المنبر لولا علمه أنها السنة، وإنما كره أن يحلف عند المنبر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واليمين عند المنبر بمكة والمدينة لا خلاف فيه فى قديم ولا حديث وأن نقل الحديث فيه تكلف؛ لإجماع السلف عليه، ولقد بلغنى أن عمر بن الخطاب حلف عند المنبر فى خصومة كانت بينه وبين رجل، وأن عثمان ردت عليه اليمين عند المنبر، فافتدى منها وقال‏:‏ أخاف أن توافق قدرًا فيقال‏:‏ إنه بيمينه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أمر أن يحلف فى أعظم موضع فى المسجد، ليرتدع أهل الباطل، وهذا مستنبط من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏، فاشتراطه بعد الصلاة تعظيمًا للوقت وإرهابًا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت، مخصوصة وقت التعظيم كخصوصة موضع التعظيم، ألا ترى ما ظهر من تهيب زيد بن ثابت للموضع، فمن هو دون ذلك من أهل المعاصى الخائفين من العقوبات أولى أن يرهبوا المكان العظيم‏.‏

باب الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمِ الِقْيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏:‏ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما خص النبى صلى الله عليه وسلم هذا الوقت بالتعظيم وجعل الإثم فيه أكبر من غيره؛ لشهود ملائكة الليل والنهار فى وقت العصر، وليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فى هذا الوقت المعظم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم الله‏)‏ يعنى‏:‏ وقتًا دون وقت لمن أنفذ الله عليه الوعيد، وليس على الاستمرار والخلود‏.‏

هذا مذهب أهل السنة، وفيه أنه قد يستحق النوع من العذاب على ذنوب مختلفة، فالمانع لفضل الماء أصغر معصية من المبايع الناكث، والحالف الآثم، والله أعلم‏.‏

باب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِى الْيَمِينِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِى الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ‏.‏

إنما كره النبى صلى الله عليه وسلم تسارعهم فى اليمين والله أعلم لئلا تقع أيمانهم معًا فلا يستوفى الذى له الحق أيمانهم على معنى دعواه، ومن حقه أن يستوفى يمين كل واحد منهم على حدته، فإذا استوفى قوم فى حق من الحقوق لم يبدأ أحد منهم قبل صاحبه فى أخذ ما يأخذ أو دفع ما يدفع عن نفسه إلا بالقرعة، والقرعة سنة فى مثل هذا، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم أقرع بين نسائه عند سفره، وكن قد استوين فى الحرمة والعصمة، ولم تكن واحدة أولى بالسفر من صاحبتها‏.‏

باب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ

وَقَالِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56‏]‏‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏‏)‏ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 107‏]‏‏.‏

يُقَالُ‏:‏ بِاللَّهِ، وَتَاللَّهِ، وَوَاللَّهِ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ‏)‏ وَلا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ - فيه‏:‏ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِاللَّهِ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رجلاً جَاءَ إِلَى النبى صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الإسْلامِ‏.‏‏.‏، إلى قَوْلهُ‏:‏ وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى كيفية اليمين التى يجب أن يحلف بها‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ يحلف بالله ولا يزيد عليه‏.‏

وقال مالك‏:‏ يحلف بالله الذى لا إله إلا هو ما له عنده حق وما ادعيت علىّ إلا باطلا‏.‏

وقال الكوفى‏:‏ يحلف بالله الذى لا إله إلا هو، فإن اتهمه القاضى غلظ عليه اليمين فيزيد‏:‏ عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وبأى ذلك حلفه الحاكم يجزئ‏.‏

وكل ما أورده البخارى من آيات القرآن ومن الأحاديث فى هذا الباب حجة لمن اقتصر على الحلف بالله ولم يزد عليه، وكذلك قال عثمان لابن عمر‏:‏ تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه‏.‏

وأجمعوا أنه لا ينبغى للحاكم أن يستحلف بالطلاق أو العتاق أو الحج أو المصحف‏.‏

باب مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ

وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ‏.‏

وقال طَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَشُرَيْحٌ‏:‏ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذه المسألة، فذهب جمهور العلماء إلى أنه إن استحلف المدعى عليه، ثم أقام المدعى البينة قبلت بينته وقضى له بها على ما ذكر البخارى، عن شريح وطاوس والنخعى، وهو قول الثورى والكوفيين، والليث والشافعى، وأحمد وإسحاق، وقال مالك فى المدونة‏:‏ إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة ثم علمها قضى له بها، وإن استحلفه ورضى بيمينه تاركًا لبينته وهى حاضرة أو غائبة فلا حق له إذا شهدت له‏.‏

قاله مطرف، وابن الماجشون‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه‏.‏

وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واحتج لابن أبى ليلى بعض الناس فقال‏:‏ لما حكم النبى صلى الله عليه وسلم بالبينة على المدعى واليمين على المنكر كان المدعى لا يستحق المال بدعواه والمنكر لا يبرأ من حق المدعى بجحوده، فإذا أقام المدعى البينة أخذ المال، وإذا حلف المدعى عليه برئ، وإذا برئ فلا سبيل إليه‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ فدل هذا أن يمين المدعى عليه لا يسقط الحق، وقطعه لا يوجب له ملكه، فهو كالقاطع الطريق لا يملك ما قطعه، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد نهاه عن أخذه بقوله‏:‏ ‏(‏فلا يأخذه‏)‏‏.‏

وقد ذكر ابن حبيب أن عمر بن الخطاب تخاصم إليه يهودى ورجل من المسلمين، فقال عمر‏:‏ بينتك‏.‏

فقال‏:‏ ما تحضرنى اليوم‏.‏

فأحلف عمر المدعى عليه، ثم أتى اليهودى بعد ذلك بالبينة فقضى له عمر ببينته‏.‏

وقال‏:‏ البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة‏.‏

وروى أبو زيد عن ابن الماجشون فى اليمانية أنه يقضى له بالبينة، وإن كان عالمًا بها على قول عمر بن الخطاب‏.‏

واختلف عن مالك، إذا أقام الطالب شاهدًا واحدًا، وأبى أن يحلف معه فحلف المطلوب، ثم وجد الطالب شاهدًا آخر هل يضيفه إلى الشاهد الأول أم لا‏؟‏ فروى ابن الماجشون عن مالك أنه يضيفه إلى الأول، وروى ابن كنانة عن مالك أنه لا يضيفه إلى الشاهد الأول، ورواه يحيى، عن ابن القاسم‏.‏

باب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ

وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ، وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏، وَقَضَى ابْنُ الأشْوَعِ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَقَالَ‏:‏ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قَالَ‏:‏ وَعَدَنِى فَوَفَانِى‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ‏:‏ سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ‏؟‏ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ، وَبالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأمَانَةِ، قَالَ‏:‏ وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِىٍّ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ‏:‏ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ لَمَّا مَاتَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِىِّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ، فَلْيَأْتِنَا، قَالَ جَابِرٌ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ وَعَدَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَنِى هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ‏:‏ فَعَدَّ فِى يَدِى خَمْسَ مِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ سَأَلَنِى يَهُودِىٌّ‏:‏ أَىَّ الأجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا أَدْرِى، حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ، فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ‏:‏ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ‏:‏ قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ فَعَلَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنجاز الوعد مندوب إليه مأمور به، وليس بواجب فرضًا، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشىء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أن ذلك مستحسن، وقد أثنى الله على من صدق وعده، ووفى بنذره، وذلك من مكارم الأخلاق، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بها وأبدرهم إليها أدى عنه أبو بكر الصديق خليفته، وقام فيه مقامه، ولم يسأل أبو بكر جابرًا البينة على ما ادعاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدة، لأنه لم يكن شيئًا ادعاه جابر فى ذمة النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما ادعى شيئًا فى بيت المال والفئ، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام، وقد تقدم اختلاف الفقهاء فيما يلزم من العدة، وما لا يلزم منها فى كتاب الهبات‏.‏

باب لا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا

وَقَالَ الشَّعْبِىُّ‏:‏ لا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَ‏)‏ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلينا‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا‏:‏ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏)‏ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ أَفَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ‏؟‏، وَلا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة‏:‏ لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ولا على مسلم‏.‏

روى ذلك عن الحسن البصرى، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تقبل على المشركين وإن اختلفت مللهم، ولا تقبل على المسلمين‏.‏

روى هذا عن شريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول أبى حنيفة والثورى وقالوا‏:‏ الكفر كله ملة واحدة‏.‏

وقال ابن أبى ليلى والحكم وعطاء‏:‏ تجوز شهادة أهل كل ملة بعضهم على بعض، ولا تجوز على ملة غيرها، وهو قول الليث وإسحاق، للعداوة التى بينهم، وقد ذكر الله فى كتابه فقال‏:‏ ‏{‏فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقال ابن شعبان‏:‏ أجمع العلماء أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوّه فى شىء، وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر‏؟‏ واحتج الكوفيون بما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن اليهود جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فأمر النبى صلى الله عليه وسلم برجمهما‏)‏‏.‏

واحتج من لم يجزها فقال‏:‏ لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأنكم لا تقولون به ولا نحن؛ لأن عندنا وعندكم أن من شروط الرجم الإسلام، وقد روى أن اليهوديين اعترفا بالزنا فرجمهما بإقرارهما لا بالشهادة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحجة من لم يجز شهادتهم على كافر ولا على مسلم أن الله وصفهم بالكذب عليه وعلى كتابه، واتفق العلماء أن الكاذبين على الناس لا تقبل شهادتهم، فالكذب على الله أعظم فهو أولى برد شهادتهم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وأيضًا فإن المسلم الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أفسق، فلا يجوز قبوله على فاسق مثله ولا على مطيع‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد أجازت طائفة من السلف شهادتهم على المسلم فى الوصية فى السفر للضرورة، روى ذلك عن شريح والنخعى، وبه قال الأوزاعى، وقال ابن عباس فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏أو آخران من غيركم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏‏:‏ من غير المسلمين‏.‏

قيل‏:‏ قد قال الحسن البصرى‏:‏ ‏(‏أو آخران من غيركم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏‏:‏ من غير قومكم من أهل الملة‏.‏

واتفق مالك والكوفيون والشافعى على أنهم لا تجوز شهادتهم فى الوصية فى حضر ولا سفر، والآية عندهم منسوخة، فلم يلزمهم تأويل ابن عباس؛ لأجل من خالفه من العلماء، وقد شرط الله قبول العدول فى الشهادة بقوله‏:‏ ‏(‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوى عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تصدقوا أهل الكتاب‏)‏ حجة لمن لم يجز شهادتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا تكذبوهم‏)‏ يعنى‏:‏ فيما ادعوا من الكتاب ومن أخبارهم؛ مما يمكن أن يكون صدقًا أو كذبًا؛ لإخبار الله تعالى عنهم أنهم بدلوا الكتاب ليشتروا به ثمنًا قليلا، ومن كذب على الله فهو أحرى بالكذب فى سائر حديثه‏.‏

وسأل بعض علماء النصارى محمد بن وضاح فقال‏:‏ ما بال كتابكم معشر المسلمين لا زيادة فيه ولا نقصان وكتابنا بخلاف ذلك‏؟‏ فقال له‏:‏ لأن الله وكل حفظ كتابكم إليكم فقال‏:‏ ‏(‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ فما وكله إلى المخلوقين دخله الخرم والنقصان، وقال فى القرآن‏:‏ ‏(‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ فتولى الله حفظه فلا سبيل إلى الزيادة فيه ولا إلى النقصان‏.‏

باب الْقُرْعَةِ فِى الْمُشْكِلاتِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ اقْتَرَعُوا فَجَرَتِ الأقْلامُ مَعَ الْجِرْيَةِ، وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ، فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَاهَمَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 141‏]‏ أَقْرَعَ ‏{‏فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ‏}‏ مِنَ الْمَسْهُومِينَ‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ عَرَضَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ‏.‏

- فيه‏:‏ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِى أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِى أَعْلاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِى أَعْلاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَوا فَأْسًا، فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا مَا لَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَأَذَّيْتُمْ بِى، وَلا بُدَّ لِى مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ، وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمَّ الْعَلاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ سَهْمُهُ فِى السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلاءِ‏:‏ فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى، فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّىَ، وَجَعَلْنَاهُ فِى ثِيَابِهِ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ، فَقُلْتُ‏:‏ لا أَدْرِى، بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَإِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ، قَالَتْ‏:‏ فَوَاللَّهِ، لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَأَحْزَنَنِى ذَلِكَ، قَالَتْ‏:‏ فَنِمْتُ، فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِى، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ذَاكِ عَمَلُهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ كَانَ النبى صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

القرعة فى المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء فى المستوين فى الحجة؛ ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن تولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعًا للكتاب والسنة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء‏:‏ يونس وزكريا ومحمد نبينا، قاله ابن المنذر‏.‏

واستعماله القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها ورد الآثار الواردة المتواترة بالعمل بها‏.‏

قال الشافعى‏:‏ ولا يعدم المقترعون على مريم أن يكونوا تنافسوا كفالتها، فكان أرفق بها وأعطف عليها، وأعلم بما فيه مصلحتها أن تكون عند كافل واحد، ثم يكفلها آخر مقدار تلك المدة، أو تكون عند كافل واحد ويغرم من بقى مئونتها بالحصص، وهم بأن يكونوا تشاحوا كفالتها أشبه من أن يكونوا تدافعوها؛ لأنها كانت صبية غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل ستره ومصالحه، فإن يكفلها واحد من الجماعة أستر عليها وأكرم لها، وأى المعنيين كان، فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفعه عن نفسه أو يخلص له ما يرغب فيه‏.‏

وهكذا معنى قرعة يونس، وقفت بهم السفينة فقالوا‏:‏ ما عليها إلا مذنب، فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس، فأخرجوه منها‏.‏

وذكر أهل التفسير أنه قيل ليونس‏:‏ إن قومك يأتيهم العذاب يوم كذا‏.‏

فخرج ذلك اليوم، ففقده قومه فخرجوا فأتاهم العذاب ثم صرف عنهم، فلما لم يصبهم العذاب ذهب مغاضبًا، فركب البحر فى سفينة مع ناس، فلما لجُّوا ركدت السفينة فلم تسر فقالوا‏:‏ إن فيكم لشرا‏.‏

فقال يونس‏:‏ أنا صاحبكم فألقونى‏.‏

قالوا‏:‏ لا حتى نضرب بالسهام‏.‏

فطار عليه السهم مرتين فألقوه فى البحر، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظمًا‏.‏

قال الشافعى‏:‏ وكذلك كان إقراع النبى صلى الله عليه وسلم فى العدل بين نسائه حين أراد السفر ولم يمكنه الخروج بهن كلهن فأقرع بينهن ليعدل بينهن ولا يخص بعضهن بالسفر، ويكل ذلك إلى الله، ويخرج ذلك من اختياره، فأخرج من خرج سهمها، وسقط حق غيرها، فلما رجع عاد للقسمة بينهن ولم يقسم أيام سفره، فكذلك قسم خيبر وكان أربعة أخمساها لمن حضر فأقرع على كل جزء، فمن خرج فى سهمه أخذه وانقطع منه حق غيره، وقد تقدم فى كتاب الشركة شىء من الكلام فى القرعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏المدهن فى حدود الله‏)‏ يعنى‏:‏ المداهن فيها المضيع لها الذى لا يغير المعاصى ولا يعملها فهو مستحق بالعقوبة على سكوته ومداهنته‏.‏

ومعنى المثل الذى ضربه صلى الله عليه وسلم فى السفينة وقوله‏:‏ ‏(‏طار لهم سهمه‏)‏ يقال‏:‏ طار له فى سهمه كذا‏.‏

إذا خصه ذلك وأصابه فى سهمه‏.‏